فصل: فصل: في خراب الوقف وما يلحقه من التغايير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في بيان نفقة الموقوف:

5794- إذا ذكر الواقف أن نفقة العبد الموقوف في كسبه، فما فضل عن نفقته من منافعه وكسبه، فهو مصروف إلى الجهات التي يذكرها، فشرْطُ الوقف يصح على هذا الوجه.
والأولى لكل واقف أن يبدأ بصرف المستفاد من الوقف إلى ما به قوامُ الوقف وبقاؤه. هذا هو العادة المعتادة في شرائط الواقفين.
فإن أطلق الوقف على معيّن مثلاً، وبعده على جهة لا تنقطع، ولم يتعرض للنفقة، فلا يخلو العبد إما أن يكون كسوباً، وإما ألا يكون كذلك، أو كان كسوباً ولكن كسبه لا يفي بمؤنته ونفقته، أو يكون كسوباً أوّلاً، ثم يطرأ عليه الزمانة المقعدة من الكسب.
فأما إذا كان كسوباً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن نفقته تتعلق بكسبه، وإن لم يتعرض الواقف لذلك.
وذكر بعض المصنفين أن نفقته تخرّج على أقوالِ الملك، ولا تتعلق بكسبه، كما لو أقعدته زمانة عن الكسب، وهذا وإن كان يمكن توجيهه بأن الوقف تضمَّن صرفَ كسبه إلى الموقوف عليه، فكأنه غير مكتسب، إذا كان مستغرَق الكسب في استحقاق الموقوف عليه، فما أرى ذلك معتداً به، والتعويل على ما ذكره الأئمة في الطرق، وهو أن النفقة تتعلق بالكسب، ووجه ذلك الحملُ على العادة أوَّلاً، والعادة إذا اطردت، كانت بمثابة التصريح بالشرط. وهذا أصلٌ، لا حاجة إلى تقريره بالشواهد.
5795- فأما إذا لم يف الكسب بالنفقة، أو طرأ مانع يمنع عن الكسب، فالنفقة حينئد تخرّج على أقوال الملك: فإن حكمنا بأن الملك للواقف في الرقبة، فالنفقة عليه.
وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فالنفقة تجب عليه.
وإن حكمنا بأن الملك لله، فالنفقة في مال الله.
وهذا إنما يجري في الإنفاق على ذي الروح لحرمته؛ فإنه لا يجوز تعطيله، وتركه يهلك هَزْلاً.
5796- فأما عمارة الوقف إذا كان الموقوف عقاراً، وكان الوقف مطلقاًً، وريْعه لا يفي بالعمارة التي لابد منها في إقامة الوقف وإدامته، فلا خلاف أنها لا تجب على أحدٍ: لا على الموقوف عليه إذا نسبنا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على قول إضافة الملك لله تعالى، ولا على الواقف، على قولنا: إن الملك له.
والسبب فيه أن عمارة الأوقاف يُنحى بها نحو عمارة الأملاك، ولا يجب على المالك أن يعمر ملكه.
وقد ذكرنا في كتاب الإجارة وجهاً أن المكري يلزمه عمارةُ الدار المكراة، ليتوفر المنافع منها على المكتري، وهذا سببه عهدةُ العقد، والتزامُ المكري توفية المنافع، وتوفيرها على مقابلة استحقاق العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في حق الواقف.

.فصل: في خراب الوقف وما يلحقه من التغايير:

5797- فإذا وقف الرجل شجرةً لتصرف ثمرتُها إلى شخص، وبعده إلى جهة، فلو يبست الشجرةُ، وصارت حطباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يبطل الوقف في ذلك، وينقلب الحطب ملكاًً للواقف؛ فإن الوقف المضافَ إلى الشجرة إنما يتعلق بالشجرة ما دامت ناضرة؛ فإن اسم الشجرة في التحقيق ينطلق عليها ما دامت كذلك، فإن سمى مسمٍّ حطبها شجرة، كان ذلك على مذهب الاستصحاب، فجفاف الشجرة إذاً، كهلاك العبد الموقوف، غير أنه إذا هلك، لم يفرض ردُّ جثته إلى ملكٍ؛ من جهة أنها ليست مالاً، والحطب مال.
5798- ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بارتداد الحطب إلى ملك الواقف، ولا نقضي بانقطاع أثر الوقف.
ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين: فذهب بعضهم إلى أن الشجرة تستعمل في جهة إمكان الانتفاع بها، ويقدر كأن الواقف وقف جذعاً على إنسان، فإذا أمكن الانتفاع به، بإجارته وأخد أجرته واستعمال الموقوف عليه إياه في جهةٍ ينتفع به فيها، فهو الواجب.
ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت الجهة التي أرادها الواقف من الشجرة، فالحطب أو الشجرة التي تصلح للانتفاع تباع، ويصرف ثمنه إلى ابتياع شجرة أخرى، أو إلى قسطٍ، إن لم يتأت شراء شجرةٍ أخرى كاملة، ثم تحبّس على الجهة التي ذكرها الواقف.
ومن أئمتنا من قال: ذلك الحطب يصرف ملكاًً إلى الموقوف عليه.
وهذان الوجهان الأخيران يقربان من تردد الأصحاب في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفها جانٍ. وقد ذكرنا التفصيل فيها.
5799- ومما أطلقه الأئمة في الكتب أن حُصُر المساجد إذا بليت، وصارت بحيث لا ينتفع بها، أو انكسر جذع وترضّض في مسجدٍ، وخرج عن إمكان الانتفاع، أو كنا نتعهد خشبة قائمة في المسجد، فاتفق نحتُ شيء منها، فتلك النحاتة ما حكمها؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: الوجه بيع هذه الأشياء، وصرفُ ثمنها إلى مصلحة المسجد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لتعطل، ولا يمكن تقدير ارتداد أجزاء المسجد إلى ملك أحد؛ فإنها على التحقيق ملكٌ لله تعالى، والقول فيما يتعلق بمصالح المسجد كالفرش بمثابة القول في أعيان المسجد.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا لا نتعرض لبيع هذه الأشياء؛ فإنها خرجت عن المالية، إذ صرفت إلى هذه الجهة، فلا تعود أموالاً، فالوجه أن تترك على حالتها.
وهذا بعيد، لا اتجاه له.
5800- نعم اشتهر الخلاف في أنه إذا أشرف جذع في المسجد على الانكسار، وتبيّن أنه إليه يصير، وهو في الحال على بقيةٍ من المنفعة المطلوبة، فهل يجوز للقائم بالمسجد أن يرعى المصلحة ويبيعَه قبل أن ينكسر، أم لا يجوز ذلك حتى يتحقق تعطل منفعته في جهته؟ هذا موضع اشتهار الخلاف.
5801- ومما يتعلق بهذا الأصل أن من وقف داراً فأشرفت على الخراب، وعرفنا أنها لو انهدمت، عسر ردُّها وإقامتُها، فهل نحكم والحالة هذه بجواز بيعها؟
اختلف الأئمة فيه: فذهب الأكثرون إلى منع البيع.
وجوّز المجوّزون البيعَ.
فإن منعنا البيع، أدمنا الوقف، وانتظرنا ما يكون.
وإن جوّزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف.
ومن أئمتنا من نحا بالثمن نحو القيمة إذا أتلف العينَ الموقوفة متلف. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له في هذا المقام.
وإن حكمنا بأن الثمن يصرف إلى ابتياع شيء وتحبيسه على الجهة التي كانت، فهذا حكم منا ببقاء مقتضى الوقف.
وإن حكمنا بصرف الثمن إلى الجهة التي ذكرناها في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفت، فمن جملة ما قيل في مصرف القيمة: أنها تصرف إلى الموقوف عليه؛ تفريعاً على أن الملك في العين له.
5802- فلو قال الموقوف عليه: لا تبيعوا هذه الدار المشرفة على الخراب واقلبوها إلى ملكي؛ فإنكم لو بعتموها، لصرفتم الثمن إليّ، فلا فائدة في البيع، والوجهُ الحكم بانقلاب هذه العين إلى حقي وملكي على الوجه الذي انتهى التفريع عليه.
فالمذهب أنا لا نجيبه إلى ذلك، ولا نقلب عين الوقف ملكاً، بل إذا جوزنا البيع، فبطلان الوقف يتوقف على جريان البيع، وهو باقٍ إلى اتفاقه.
وأبعد بعض الأصحاب، فأسعف الموقوفَ عليه، بما أراد، ثم هذا القائل لا يحوج إلى إنشاء عقدٍ، أو قولٍ في قلب العين إلى الموقوف عليه. ولكنه يقول: إنها تنقلب إليه. وهذا في نهاية الضعف.

.فصل: فيما يتضمن حجراً في الوقف:

5803- قد مهدنا في أصول الكتاب أن شرائط الواقف متبعة في تعيين الجهات وتفصيلها.
والمذهب الظاهر الذي قطع به معظم الأئمة أنه لو وقف داراً على معينين، وشرط
أن يسكنوها، ولا يؤاجروها، فليس لهم أن يتعدَّوْا موجَب الشرط، وتنزل الدار في نوْبتهم-ما بقوا- منزلة الرباطات والمدارس المسبّلة على جهة السكون.
وقال بعض أصحابنا: الوقف على معينين سبيله سبيلُ التمليك، ولا يُرعى في هذه الجهة وجهُ القربة، ولذلك يجوز التحبيس على جماعة معيّنين من الكفار، والفسقة، وإذا كان محمولاً على التمليك، فالمنع من الاستغلال بجهة الإجارة حجرٌ في الملك، فكان فاسداً مناقضاً للتمليك.
ثم إذا فسد الشرط، انقدح فيه وجهان مبنيان على الأصل الممهد فيما تقدم: أحد الوجهين- أن الشرط يفسد، والوقف مقدر دونه على حكم الإطلاق، ولا حجر على الموقوف عليهم.
والوجه الثاني- أنه يفسد، ثم لا يخفى حكم فساده؛ فتبقى العين على ملك الواقف ويلغو الوقف، ويسقط أثره.
5804- ولو وقف ضيعةً، أو داراً على معينين، وسوّغ الإجارة، ولكن حجر عليهم في زيادة مدة الإجارة على سنةٍ مثلاً، فالمذهب الذي يجب القطع به أن شرطه متبع؛ فإن هذا الشرط ليس حجراً في التحقيق، بل فيه رعايةُ مصلحة الوقف، واستبقائه؛ فإن مدة الإجارة إذا طالت واستولت أيدي المستأجرين فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل الوقف رأساً.
فهذا القائل يقول: وإن منعنا الحجر، فلا نمنع ما يتعلق باستصلاح الوقف وتوفير المنفعة.
وأبعد بعض أصحابنا فأفسد هذا الشرطَ، ورآه ملحقاً بما يتضمن الحجرَ. وهذا مما لا أعتد به أصلاً.
5805- ولو جعل بقعةً مسجداً، وأطلق، ثبت حكم المسجد في حق الناس كافة، ولم يتخصص بها قوم.
ولو قال: لا يدخل المسجد إلا عصبة خصصهم، فهذا الشرط باطل؛ فإن مبنى الحكم في المساجد التعميم.
5806- ولو شرط ألا يقام في المسجد إلاّ شعارُ مذهبٍ خصَّصه بالذكر، فالمذهب والقياس أن ذلك التخصيص باطل، لما حققناه من أن أمور المساجد لا تقبل التخصيص.
وذهب طائفة من الأصجاب إلى وجوب اتباع شرط الواقف في تعيين ذلك الشعار.
وهذا قاله من قاله على جهة المصلحة؛ فإن التنافس بين أهل المذاهب ليس بالخفي، ولو ثبت المسجد عاماً، يشترك أصحاب المذاهب في إقامة شعارهم فيها مع الاختلاف، لأدى ذلك إلى الازدحام، والأمرِ الذي لا ينكر في طرد العرف، ثم الوالي لا يمكنه أن يتحكم في تعيين شعار مذهب، فأولى متبع في الباب ما ينص عليه ناصب المسجد وجاعله.
5807- ولو جعل بقعة مقبرة، اشترك فيها كافة المسلمين، وخرج عن إطلاق الوقف
الكفارُ؛ فإن مطلق اللفظ يقتضي القربةَ، وقرينةُ الحال تشهد بذلك، فحمل الوقف عليه.
ولو جعل بقعة مقبرة لمخصوصين بالذكر، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيه، فذهب بعضهم إلى تنزيل المقابر منزلةَ المساجد، حتى لا يسوغ التخصيص فيها.
وذهب الأكثرون إلى اتباع الواقف في تعيينه؛ فإن القبور في حق الأموات بمثابة المساكن في حق الأحياء، ثم تعيين المساكن لأقوام سائغٌ صحيح، فليكن تعيين المقابر كذلك.
5808- ومهما فسد شرط في جعل المسجد، فالمذهب المبتوت أن الشرط يلغى، وينفد المسجد؛ فإن هذه الجهة مشابهة للإعتاق، والشرط الفاسد إذا لم يقع على جهة التعليق لا ينافي نفود العتق. هذا منتهى القول فيما يتضمن حجراً سائغاً، أو ممنوعاً في جهات الوقف.
فرع:
5809- إذا علق الرجل عتق عبده بصفةٍ، ثم حبَّسه فوقفه، فالوقف نافذٌ في الحال، فإذا وُجدت الصفة بعد الوقف، فهذا يخرج على الأقوال في ملك الوقف: فإن حكمنا بأن الملك في الموقوف للموقوف عليه، فالعتق لا ينفذ، وينزل هذا منزلة ما لو علق عتق عبده، ثم باعه، وألزم البيع، ووجودُ الصفة في ملك المشتري لا يتضمن حصولَ العتاقة.
وهكذا التفريع على قولنا إن الملك في الموقوف زائلٌ إلى الله تعالى.
فأما إذا حكمنا بأن الملك في رقبة الوقف للواقف، فظاهر المذهب أن العتق ينفذ عند وجود الصفة.
ومن أصحابنا من قال: القول في نفود العتق في هذه الصورة كالقول في إعتاق الواقف العبدَ الموقوف، ولو أعتقه، لخرج نفود عتقه على أقوال نفود عتق الراهن في المرهون، وهذا يتردد على أحكامٍ، ويجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة تقدير وقوع العتق، وعليه يخرّج أمر من علق عتق عبده في صحته، ثم مرض، فوجدت الصفة في مرض موته، فهذا ملحق بعتق الصحة، أو عتق المرض؟ وهذا الخلاف يجري فيه إذا علّق عتقَ عبده بصفةٍ، ثم رهنه.
5810- ومما يجري في أثناء ذلك أنه لو علق عتق عبده بمجيء وقتٍ، فهذا يأتي لا محالة، فلو وقفه، احتمل أن يلحق ذلك بالوقف المؤقت إذا كنا نحكم بنفوذ العتق بعد الوقف. وإذا كنا لا نحكم بنفوذ العتق، فلا شك في صحة الوقف.
فرع:
5811- إذا وقف بهيمةً على إنسان، وجعل له الركوب منها، ولم يُثبت له لبنَها، وصوفَها أو وَبَرها، فمن أصحابنا من قال: حكم الوبر واللبن حكمُ منافعِ وقفٍ انقطع مصرفه، وقد ذكرنا التفصيل في ذلك، فلا نعيده.
ومن أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يُفسده.
ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يعمّ، ولا خلاف أنه لو جعل الركوب لشخصٍ، واللبن والوبر لآخر، جاز.
فأما القول في نتاج البهيمة، فقد ذكرناه مفصلاً على الاستقصاء.
فرع:
5812- سئل ابنُ سُريجٍ عمن وقف شجرةً على رجل، هل يجوز له قطع أغصانها إذا كانت الشجرة تبقى مع القطع؟ فقال: إن أجاز الواقف ذلك في شرط الوقف، جاز، وإن أطلق الوقفَ، لم يجز قطعُ الأغصان. قال الأصحاب: هذا في شجرةٍ لا يعتاد قطع أغصانها، فإن كانت الشجرة بحيث لا تطلب إلا لقطع أغصانها، ثم إنها تخلُف كالخِلاف، فمطلق الوقف فيها محمولٌ على حكم العادة، وأغصان شجرة الخِلاف كثمرات الأشجار المثمرة.
فرع:
5813- لو وقف أرضاً، وشرط أن تصرف غلتُها إلى زكوات تجمعت عليه، أو كفارات لزمته، فحاصل المذهب في هذا أن ما ذكره وقفٌ منه على نفسه، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.
فإن منعنا ذلك، فالوقف باطلٌ؛ فإن الزكوات التي لزمته ديونٌ عليه، وتأديةُ ديونه من حقه، فقد صرف الوقفَ إلى حق نفسه.
ولو وقف شيئاً على مصارف الزكاة، صح، وحمل ذلك على الصرف إلى الأصناف المذكورين في كتاب الله تعالى، إلا العاملين والمؤلفة، أما العاملون، فلا شك في خروجهم، وأما المؤلفة، ففيهم تفصيل سيأتي مشروحاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى، فإن رأيناهم من جهات الخير، لم يمتنع صرف الوقف إليهم.
فرع:
5814- إذا قال: وقفت على جهة الثواب، فقد ذهب ذاهبون إلى أن هذا محمول على الوقف على الأقارب، ولو وقف على جهة الخير، صُرف إلى مصارف الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، مع استثناء العاملين، كما سبق، ويصرف إلى قِرى الضيفان، أورده شيخي كذلك، وذكره العراقيون على هذا النحو، ففصلوا بين الثواب والخير.
ثم خصصوا كلّ لفظ بما ذكرناه، فالذي نحققه أن الخير رأوا صرفه إلى مصارف القربات الثابتة في الكتاب والسنة، وهي محصورة في مصارف الصدقات، وقِرى الضيفان.
ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير، وحكى في ذلك نصَّ الشافعي.
وذكر بعضُ المصنفين أن الفرق بين الثواب والخير مذهبُ بعض السلف. ولا فرق في ذلك عندنا.
وذهب معظم القياسين إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القُرب، ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير. وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ولا ينقدح فيه تردد، إلا في شيء.
5815- وهو أن رَيْع الوقف لو فرض جمعه وبناء رباطٍ به، أو مسجدٍ، فهو من جهات الخير، ويحتمل أن يقال: لا يحمل الوقف على هذا؛ فإن العادةَ ما جرت به، وإنما العرف الجاري في إخراج الريع إلى من ينتفع به، فأما اقتناء عقاراتٍ، وبناء مساجدَ، فليس مما يعتاد، والقول الضابط عندنا في الباب اتباع اللفظ في عمومه وخصوصه، إلا أن يتحقق عرفٌ مطردٌ مقترنٌ باللفظ، فيحكم العرف في اطراده، على تفاصيلَ مضت.
5816- والذي أراه أن تشعيب المسائل اللفظية ليست من مسائل الوقف؛ فإنها تجري في الوصايا وغيرها، وليس من الرأي الإطناب فيها؛ فإنها بالوصايا أليق.
5817- ولو وقف على سبيل الله تعالى، كان ذلك محمولاً على الوقف على الغزاة؛ تعلقاً بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60].
فرع:
5818- اسم المولى ينطلق على المعتِق المنعِم، وهو الذي يسمى المولى الأعلى، وينطلق على المعتَق المنعَم عليه، ويسمى المولى الأسفل.
فقال أئمة العراق: إذا قال الواقف: وقفتُ هذا على مولاي، وكان له معتِق منعِم، ولم يكن له معتَق، انصرف الوقف إليه.
وإن كان له معتَق منعَم عليه، ولم يكن له معتِق أعتقه، ولم يكن عليه ولاء، انصرف إلى المولى الأسفل.
وإن كان له على إنسان ولاء، وكان عليه ولاءٌ لغيره، فإذا اجتمع المعتِق والمعتَق، فقد ذكر أئمة العراق ثلاثة أوجه: أحدها: أن الوقف يصرف إلى الصنفين، يستويان فيه.
والثاني: أنه يصرف إلى الأعلَيْن؛ فإن المولى إذا أطلق، كان ظاهراً في المنعِم، محتملاً في غيره.
والوجه الثالث: أن الوقف يبطل، لتردده بين الأعلى والأسفل.
5819- وهذا الذي ذكروه يفتقر إلى فضل بيان. فإن كان ذكر الواقف المولى على صيغة التوحيد، لم ينقدح فيه إلا وجهان:
أحدهما: الحمل على المولى الأعلى، لما ادعيناه من ظهور اللفظ، والآخر- البطلان؛ فإن اللفظ إذا كان على صيغة الوحدان، لم يصلح للعموم، وكل لفظ مشترك بين معنيين، فهو غير محمول عليهما؛ فإن اللفظ المشترك غيرُ موضوعٍ للاشتمال على المسميات جمعاً، بل هو صالح لآحاد المعاني على البدل، وهذا يجرّ إبهاماً لا محالة.
وقد ينقدح حيث انتهى الكلام إليه مراجعة الواقف؛ فإن اللفظ الذي جاء به محتمل، وليس كما لو قال: وقفت على أحد هذين الرجلين؛ فإن ذلك صريح في الإبهام.
ولا يتأتى منا المبالغة في كشف ذلك، فهو محال على معرفة الألفاظ.
5820- وهذا إذا ذكر اللفظ على صيغة الوحدان، فأما إذا قال: وقفت على مواليَّ، وله الصنفان: الأعلَوْن والأسفلون، فينقدح في هذه الصورة الصرفُ إليهم، والصرفُ إلى الأعليْن.
وقد يخرّج وجهُ الإبطال من جهة تقدير التردد، وهذا فيه بُعدٌ؛ لصلاح اللفظ للعموم والشمول.
ولكن قد ينقدح أن الإنسان لا يطلق هذا إلا وهو يريد أحد الصنفين؛ فإنهما في حكم المختلفين، ويبعد إرادة المختلفين في مثل هذا المقام. وينجرُّ هذا إلى التردد في الموقوف عليه.
وهذا إذا كان له جمعٌ من كل صنف، فإن كان لا ينتظم الجمع إلا بالصنفين، فالوجه الحمل عليهما.
فرع:
5821- إذا وقف على عبد إنسان شيئاً، صح، وكان وقفاً على سيده، ولو وقف على بهيمة، اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من أبطله، ومنهم من صحّحه، وحمله على مالكها. ولو وقف على إنسان شيئاً وقال في شرطه: يصرف الرَّيع إلى عبد الموقوف عليهم، فهذا حجرٌ في رَيْع الوقف فاسدٌ باتفاق الأصحاب، ويعود الكلام إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الوقفَ أم لا؟
فرع:
5822- قال الشيخ أبو علي: إذا وقف رجل في مرض موته شيئاً على وارثه، وبعده على جهة الخير. فالوقف على الوارث مردود، ولكن هذا وقف منقطع الأول، وفيه من التفصيل ما تقدم في صدر الكتاب. فإذا صححناه، انقدح في مصرفه قبل انقراض الوارث الوجوه المذكورة.
ولو ذكر جهةً فاسدةً، ثم جهةً صحيحة، وكان لا يتوقع فرض الانقراض في الجهة الفاسدة، مثل أن يقول: وقفت على رجلٍ، ثم على المساكين، فإذا لم يعيِّن رجلاً، لم ينتظم تقدير انقراضه، فإن أفسدنا الوقف، فذاك، وإن صححناه، فلا يتجه فيه إلا الصرف إلى المساكين، وكأن الرجلَ المذكور لا ذكر له. وهذا حسن فقيه، لا ينقدح غيره.
فرع:
5823- إذا أجّر البقعة الموقوفة من يصح منه إجارتُها، ثم طُلبت البقعةُ بأكثرَ من الأجرة المسماة، فالوجه أن نقول: إن كان الوقف على معيّن، وقد تولى الإجارة، فلا أثر لطلب الموضع بزيادة؛ فإن الإجارة متعلقةٌ بحقه الخاص، لا يعدوه، فكان كالمالك يُكري.
وإذا كان الأمر على هذا الوجه، ولا حجر على الموقوف عليه، فلو تبرع، وأعار، أو أكرى بدون أجر المثل، فلا معترض عليه.
ولو استثمر الأشجار المحبسة، وتبرع بجميعها، فإنما يتصرف في ملك نفسه.
والغرض مما ذكرناه تنزيل إجارة الموقوف عليه منزلةَ إجارة المالك.
5824- فأما إذا كان الوقف على جهةٍ من جهات الخير، وإجارتُه مفوّضة إلى متولٍ، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاطٌ في تحصيل ما هو الأغبط، وطلبِ ما هو الأحوط.
فلو أجر البقعة الموقوفة بأجر مثلها مدة، ثم طُلبت بالزيادة، فحاصل المذهب فيه أوجه: أحدها: أن الإجارة إذا لزمت على شرط الاحتياط، يجب الوفاء بها، ولا يغيِّرها بذلُ الزيادة من زائدٍ؛ فإن ارتفاع القيمة كان إلى ملك المستأجر، وإذا ارتفع ملك المستأجر، لم يعترض عليه.
ومن أصحابنا من قال: مهما ارتفع السعر، وزادت الأجرة، وظهر من يطلب بالزيادة، جاز للمتولي نقضُ الإجارة، بل وجب عليه ذلك؛ فإن الإجارة ترد على المنافع، وهي تؤخد شيئاً شيئاً.
وهذا عندي مزيف مجانب لمذهب الشافعي. ولم أر أحداً من أصحابنا يخالف في أن القيِّم إذا آجر ملك الطفل، ثم فرضت زيادة، على ما صورناه أنه لا يجوز نقض الإجارة.
فإن شبب صاحب هذا الوجه بطرد الخلاف في ذلك، كان قوله قريباًً من خرق الإجماع إن لم يكنه.
وقال بعض أصحابنا يجب الوفاء بالإجارة في سنة، فأما إذا زادت المدة، واختلف الأجر، لم يجب الوفاء بالإجارة، وكأن هذا القائل يرى السنة مع ما يفرض فيها من تغايير قريباً محتملاً.
ولهذا التفات على أن الإجارة حقها ألا تُزاد على سنة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى ذلك في الوقف، مع المصير إلى أن إجارة الملك تزاد على السنة، وهذا له اتجاه في الوقف على جهاتِ الخير.
5825- فإن فرعنا على أن الزائد يغير حكمَ الإجارة، فيحتمل أن يقال: المتولي يفسخ، ويحتمل أن يقال: الإجارة تنفسخ.
5826- وعندي أن هذا كلّه إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زبوناً يزيد على أجر المثل، فلا خير فيما يزيد، ولا حكم له. نعم، لو فرض هذا في ابتداء العقد، أسعف الزائد، وعقدت الإجارة معه، والله أعلم.
فرع:
5827- إذا عسر الوصول إلى شرائط الوقف، فإن لم نأيس، وقفنا الأمرَ، وحملنا المستحقين على الطلب، وإن أيسنا من العثور على شرائط الوقف، فقد سمعتُ شيخي يقول: حق هذا أن ينزَّل منزلة الوقف الذي لا مصرف له، إذا صححناه، وهو إذا قال القائل: وقفت داري هذه. وكان يحكي عن القفال في هذا: "أن أصح الوجوه فيه-إذا قال: وقفتُ- الحملُ على الجهة العامة".
ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرطَ الوقف، وأشكل علينا تفصيله، مع العلم بانحصاره في معينين. والوجه عندي وقف الريّع إلى أن يصطلحوا؛ فإنا إنما نقدِّر مصرفاً إذا تيقَّنا أن الواقف لم يثبته، وقد صححنا الوقف، فننظر في مصرفٍ، أما إذا ثبت المصرف، فالوجه الوقف على الاصطلاح، ثم يدخل في الوقف من نستيقنه مستحقاًً، فأما من لا نتحققه مستحقاًً، فلا مدخل له في الوقف والاصطلاح.
نجز كتاب الوقف بحمد الله ومنِّه، والصلاة على نبيه.